الحمد لله وحده والصلاة والسلام علي من لا نبي بعده وعلي آله وصحبه وسلم ...........
ها قد جائكم ضيف كريم يطرق باب القلوب والجوارح من جديد ليعلقها برب البرّيات ويزهدها في الدنيا وما فيها من شهوات
ضيف جاء ومع من الماء النقي ليغسل الأوزار والمعاصي والذنوب التي بها فسدت الجوارح وقتلت القلوب
ضيف من تركه بدون تكريم ولا حسن ضيافه خسر وخاب وندم وظل في غياهب الظلم والظلمات
ومن أحسن لقائه فلح وأدرك النجاح وسار علي درب الصالحين واشعل نوراً في قلبه
هذا الضيف هو رمضان
أتى رمضان مزرعة العباد ... لتطهير القلوب من الفساد
فأد حقوقه قولا وفعلا ... وزادك فاتخذه للمعاد
فمن زرع الحبوب وما سقاها ... تأوه نادما يوم الحصاد
يا من طالت غيبته عنا قد قربت أيام المصالحة يا من دامت خسارته قد أقبلت أيام التجارة الرابحة من لم يربح في هذا الشهر ففي أي وقت يربح من لم يقرب فيه من مولاه فهو على بعده لا يربح
كم ينادي حي على الفلاح وأنت خاسر كم تدعى إلى الصلاح وأنت على الفساد مثابر.
إذا رمضان أتى مقبلا ... فاقبل فبالخير يستقبل
لعلك تخطئه قابلا ... و تأتي بعذر فلا يقبل
كم ممن أمل أن يصوم هذا الشهر فخانه أمله فصار قبله إلى ظلمة القبر كم من مستقبل يوما لا يستكمله ومؤمل غدا لا يدركه إنكم لو أبصرتم الأجل ومسيره لأبغضتم الأمل وغروره
فكم خربت من ديار وكم أخلت ديارا من أهلها فما بقي منهم ديار كم أخذت من العصاة بالثار كم محت لهم من آثار
يا صاحب الذنب لا تأمن عواقبه ... عواقب الذنب تخشى وهي تنتظر
فكل نفس ستجزى بالذي كسبت ... و ليس للخلق من ديانهم وزر
أين حال هؤلاء الحمقى من قوم كان دهرهم كله رمضان ليلهم قيام ونهارهم صيام
باع قوم من السلف جارية فلما قرب شهر رمضان رأتهم يتأهبون له ويستعدون بالأطعمة وغيرها فسألتهم فقالوا نتهيأ لصيام رمضان فقالت: وأنتم لا تصومون إلا رمضان لقد كنت عند قوم كل زمانهم رمضان ردوني عليهم.
باع الحسن بن صالح جارية له فلما انتصف الليل قامت فنادتهم: يا أهل الدار الصلاة الصلاة قالوا: طلع الفجر؟ قالت: أنتم لا تصلون إلا المكتوبة ثم جاءت الحسن فقالت: بعتني على قوم سوء لا يصلون إلا المكتوبة ردني ردني قال بعض السلف: صم الدنيا واجعل فطرك الموت الدنيا كلها شهر صيام المتقين يصومون فيه عن الشهوات المحرمات فإذا جاءهم الموت فقد انقضى شهر صيامهم واستهلوا عيد فطرهم.
وقد صمت عن لذات دهري كلها ... ويوم لقاكم ذاك فطر صيامي
من صام اليوم عن شهواته أفطر عليها بعد مماته ومن تعجل ما حرم عليه قبل وفاته عوقب بحرمانه في الآخرة وفواته وشاهدوا
ذلك في قوله تعالى: {أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا}
وقول النبي صلى الله عليه وسلم:
\"من شرب الخمر في الدنيا لم يشربها في الآخرة ومن لبس الحرير في الدنيا لم يلبسه في الآخرة\" .
أنت في دار شتات ... فتأهب لشتاتك
واجعل الدنيا كيوم ... صمته عن شهواتك
وليكن فطرك عند الله ... في يوم وفاتك
خطب عمر بن عبد العزيز آخر خطبة خطبها فقال فيها: إنكم لم تخلقوا عبثا ولن تتركوا سدى وإن لكم معادا ينزل الله فيه للفصل بين عباده فقد خاب وخسر من خرج من رحمة الله التي وسعت كل شيء وحرم جنة عرضها السموات والأرض ألا ترون إنكم في أسلاب الهالكين وسيرتها بعدكم الباقون كذلك حتى ترد إلى خير الوارثين وفي كل يوم تشيعون غاديا ورائحا إلى الله قد قضى نحبه وانقضى أجله فتودعونه وتدعونه في صدع من الأرض غير موسد ولا ممهد قد خلع الأسباب وفارق الأحباب وسكن التراب وواجه الحساب غنيا عما خلف فقيرا إلى ما أسلف فاتقوا الله عباد الله قبل نزول الموت وانقضاء مواقيته وإني لأقول لكم هذه المقالة وما أعلم عند أحد من الذنوب أكثر مما أعلم عندي ولكن أستغفر الله وأتوب إليه ثم رفع طرف ردائه وبكى حتى شهق ثم نزل فما عاد إلى المنبر بعدها حتى مات رحمة الله عليه.
يا ذا الذي ما كفاه الذنب في رجب ... حتى عصى ربه في شهر شعبان
لقد أظلك شهر الصوم بعدهما ... فلا تصيره أيضا شهر عصيان
واتل القرآن وسبح فيه مجتهدا ... فإنه شهر تسبيح وقرآن
فاحمل على جسد ترجو النجاة له ... فسوف تضرم أجساد بنيران
كم كنت تعرف ممن صام في سلف ... من بين أهل وجيران وإخوان
أفناهم الموت واستبقاك بعدهم ... حيا فما أقرب القاصي من الداني
ومعجب بثياب العيد يقطعها ... فأصبحت في غد أثواب أكفان
حتى يعمر الإنسان مسكنه ... مصير مسكنه قبر لإنسان
ثبت في الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: \"كل عمل ابن آدم له الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف قال عز وجل: إلا الصيام فإنه لي وأنا الذي أجزي به إنه ترك شهوته وطعامه وشرابه من أجلي للصائم فرحتان: فرحة عند فطره وفرحة عند لقاء ربه ولخلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك\" وفي رواية: \"كل عمل ابن آدم له إلا الصيام فإنه لي\" وفي رواية للبخاري: \"لكل عمل كفارة والصوم لي وأنا الذي أجزي به\" وخرجه الإمام أحمد من هذا الوجه ولفظه: \"كل عمل ابن آدم له كفارة إلا الصوم والصوم لي وأنا أجزي به\" .
فعلى الرواية الأولى: يكون استثناء الصوم من الأعمال المضاعفة فتكون العمال كلها تضاعف بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف إلا الصيام فإنه لا ينحصر تضعيفه في هذا العدد بل يضاعفه الله عز وجل أضعافا كثيرة بغير حصر عدد فإن الصيام من الصبر وقد قال الله تعالى:
{إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ}
ولهذا ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم: أنه سمى شهر رمضان شهر الصبر.
وفي حديث آخر عنه صلى الله عليه وسلم قال: \"الصوم نصف الصبر\" خرجه الترمذي.
و الصبر ثلاثة أنواع: صبر على طاعة الله وصبر عن محارم الله وصبر على أقدار الله المؤلمة
و تجتمع الثلاثة في الصوم فإن فيه صبرا على طاعة الله وصبرا عما حرم الله على الصائم من الشهوات وصبرا على ما يحصل للصائم فيه من ألم الجوع والعطش وضعف النفس والبدن وهذا الألم الناشىء من أعمال الطاعات يثاب عليه صاحبه كما قال الله تعالى في المجاهدين: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلا نَصَبٌ وَلا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَطَأُونَ مَوْطِئاً يُغِيظُ الْكُفَّارَ وَلا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلاً إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ}
و اعلموا أن مضاعفة الأجر للأعمال تكون بأسباب منها شرف المكان المعمول فيه ذلك العمل كالحرم ولذلك تضاعف الصلاة في مسجدي مكة والمدينة كما ثبت ذلك في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
\"صلاة في مسجدي هذا خير من ألف صلاة فيما سواه من المساجد إلا المسجد الحرام\"
وفي رواية: \"فإنه أفضل\" وكذلك روي: \"أن الصيام يضاعف بالحرم\" وفي سنن ابن ماجة بإسناد ضعيف عن ابن عباس مرفوعا: \"من أدرك رمضان بمكة فصامه وقام منه ما تيسر كتب الله له مائة ألف شهر رمضان فيما سواه\"
وذكر له ثوابا كثيرا ومنها: شرف الزمان كشهر رمضان وعشر ذي الحجة وفي حديث سلمان الفارسي المرفوع الذي أشرنا إليه في فضل شهر رمضان: \"من تطوع فيه بخصلة من خصال الخير كان كمن أدى فريضة فيما سواه ومن أدى فيه فريضة كان كمن أدى سبعين فريضة فيما سواه\" وفي الترمذي عن أنس: سئل النبي صلى الله عليه وسلم أي الصدقة أفضل؟ قال: \"صدقة في رمضان\" وفي الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: \"عمرة في رمضان تعدل بحجة\" أو قال: \"حجة معي\"
وفي مسند الإمام أحمد أن امرأتين صامتا في عهد النبي صلى الله عليه وسلم فكادتا أن تموتا من العطش فذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فأعرض ثم ذكرتا له فدعاهما فأمرهما أن تتقيآ فقاءتا ملء قدح قيحا ودما وصديدا ولحما عبيطا فقال النبي صلى الله عليه وسلم: \"إن هاتين صامتا عما أحل الله لهما وأفطرتا على ما حرم الله عليهما جلست إحداهما إلى الأخرى فجعلتا تأكلان في لحوم الناس\" و لهذا المعنى والله أعلم ورد في القرآن بعد ذكر تحريم الطعام والشراب على الصائم بالنهار ذكر تحريم أكل أموال الناس بالباطل فإن تحريم هذا عام في كل زمان ومكان بخلاف الطعام والشراب فكان إشارة إلى أن من امتثل أمر الله في اجتناب الطعام والشراب في نهار صومه فليمتثل أمره في اجتناب أكل الأموال بالباطل فإنه محرم بكل حال لا يباح في وقت من الأوقات.
و قوله صلى الله عليه وسلم: \"وللصائم فرحتان: فرحة عند فطره وفرحة عند لقاء ربه\" .
أما فرحة الصائم عند فطره فإن النفوس مجبولة على الميل إلى ما يلائمها من مطعم ومشرب ومنكح فإذا منعت من ذلك في وقت من الأوقات ثم أبيح لها في وقت آخر فرحت بإباحة ما منعت منه خصوصا عند اشتداد الحاجة إليه فإن النفوس تفرح بذلك طبعا فإن كان ذلك محبوبا لله كان محبوبا شرعا والصائم عند فطره كذلك فكما أن الله تعالى حرم على الصائم في نهار الصيام تناول هذه الشهوات فقد أذن له فيها في ليل الصيام بل أحب منه المبادرة إلى تناولها في أول الليل وآخره فأحب عباده إليه أعجلهم فطرا والله وملائكته يصلون على المتسحرين فالصائم ترك شهواته لله بالنهار تقربا إلى الله وطاعة له ويبادر إليها في الليل تقربا إلى الله وطاعة له فما تركها إلا بأمر ربه ولا عاد إليها إلا بأمر ربه فهو مطيع له في الحالين ولهذا نهى عن الوصال في الصيام فإذا بادر الصائم إلى الفطر تقربا إلى مولاه وأكل وشرب وحمد الله فإنه يرجى له المغفرة أو بلوغ الرضوان بذلك.
وفي الحديث: \"إن الله ليرضى عن عبده أن يأكل الأكلة فيحمده عليها ويشرب الشربة فيحمده عليها\"
والحديث عن فضائل الصيام وفضائل شهر القرءان (رمضان ) كثير لا يسعنا ذكره أو حصره في مجرد رسالة بخاطرة نرسلها إليكم
نسأل الله أن يبلغنا رمضان وأن يتقبل منا الأعمال وأن تكون خالصه له وحده سبحانه دون غيره أنه ولي ذالك والقادر عليه