الفضائيات العربية وسنوات الضياع وتزوير التاريخ الإسلامي

الفضائيات العربية وسنوات الضياع وتزوير التاريخ الإسلامي

بقلم : د . سمير محمود قديح

عادةً نتهم المستشرقين بتزوير التاريخ الاسلامي ودرجة العادة على ان نقول بان المستشرقين قلبوا حقائق التاريخ العربي الاسلامي وان أي حادثة تاريخية اسلامية او عربية يستعصى علينا فهمها نرجعها الى المستشرقين بانهم أوردوا رواية تاريخية غير صحيحة .

ومنذ سنوات ونحن نعاني كعرب ومسلمين من اسوأ عملية تزوير للتاريخ العربي والاسلامي على شاشة الفضائيات العربية التي تتنافس فيما بينها على بث مسلسلات تاريخية زورت التاريخ الاسلامي بشكل بشع لم يصل الى مستواه المستشرقين .

ونستعرض بعض الامثلة لمسلسلات اسلامية تاريخية ، فمثلا مسلسل هارون الرشيد الذ انتجه التلفزيون المصري وكعادة المسلسلات التاريخية الاسلامية يدون عبارة " قام بمراجعة هذا المسلسل كل من الدكتور فلان وفلان وكذلك الازهر الشريف " والازهر الشريف برئ من مغالطاتهم واكاذيبهم .

فمسلسل هارون الرشيد على سبيل المثال يورد قصة ابن هارون الرشيد يعيش فقيرا في قرية نائية ، وهي قصة لم نقرأها في أي من كتب التاريخ ، وعندما انتهى عرض المسلسل استضاف التلفزيون المصري مؤلف المسلسل وساله المذيع سؤلا عابرا عن ابن لهارون الرشيد ، فضحك المؤلف وقال " هذه قصة اخترعتها من خيالي " . وهل يحق للمؤلف ان يخترع مثل هذه القصة ، وهل كل من شاهد مسلسل هارون الرشيد سيرجع الى كتب التاريخ ليعرف الحقيقة . لا يحق له ان يخترع ابن لهارون الرشيد غير ابنائه الحقيقيين لان هذا مسلسل تاريخي يشاهده التلميذ والطالب والثقف والاقل ثقافة وعامة الناس .. وعامة الناس لا يرجعون الى كتب التاريخ لمعرفة هذه الحقيقة .

اما التزوير الاكبر فكان مسلسل صلاح الدين الايوبي ، وهو مسلسل مصري ايضا يتناول قصة غرامية عجيبة بطلها الناصر صلاح الدين الايوبي ، حيث ان القائد صلاح الدين " يتنطط " في قصر احدى الاميرات ويحمل لها الورود وتارة يقفز عن السور وتارة اخرى " يتنطط " في القصر طالبا رضا الاميرة الحسناء مخاطبا ودها بمشاهد غرامية تذكرنا بافلام الاسود والابيض وقاضي الغرام .

بالله عليكم هل ورد في كتب التاريخ الاسلامي ان صلاح الدين الايوبي كان على هذا النحو ، وهل استطاع تحرير المسجد الاقصى المبارك بعد احتلال صليبي لمدة 90 عام بغراميات وقصص حب من هذا النوع ، الم تذكر كتب التاريخ ان قادة الجند عند صلاح الدين الايوبي كانوا يضحكون ذات مرة وهو متجهم عابس فسألوه لماذا لا تضحك ايها السلطان فقال : " كيف اضحك والاقصى جريح " ، فمن اين اتى هذا المسلسل بقصص غراميات على هذا النحو للناصر صلاح الدين . ولو وردت مثل هذه الرواية في كتاب لمستشرق لقامت الدنيا على راسه ولاشبعناه شتما واتهاما بانه يزور التاريخ الاسلامي ، ولكن ان نزوره نحن بانفسنا وتبثه فضائياتنا العربية لعشرات ملايين المشاهدين ولا يوجد مشكلة ولا يحتج عليه علماء المسلمين ولا يطالبون بمقاطعة مثل هذا المسلسل ، بينما لو وردت في قناة الجزيرة كلمة تمس رئيس دولة عربية لسحب السفير فورا وقطعت العلاقات مع قطر ، فزعيم أي دولة عربية اصبح اهم من صلاح الدين الايوبي محرر المسجد الاقصى .. انها مهزلة .

اما مسلسل خالد بن الوليد فقد كان في جزءه الاول بطولة النجم السوري " باسم ياخور " مسلسلا محترما ، ورغم ذلك فقد ضج الكثير من المشاهدين واحتجوا بان اسم باسم ياخور مسيحي ، فكيف يؤدي دور خالد بن الوليد ، وهي نقطة لم تكن في محلها ابدا ، النجم العالمي " انطوني كوين " ادى دور سيد الشهداء " حمزة بن عبد المطلب " في فلم الرسالة للمخرج الراحل عمر العقاد ، وكان اداء انطوني كوين رائعا متميزا ، فالعبرة بالدور الذي يؤديه ومدى اتقانه والتزامه لنص تاريخي اسلامي سليم لا غبار عليه .

انتقلت راية اخراج مسلسل خالد بن الوليد في جزئه الثاني الى المخرج غسان عبد الله وتم تغيير بسام ياخور بالنجم سامر المصري والعيب كل العيب كان في المخرج والمؤلف ، وقد كان مسلسلا هزيلا مشوها ، ولو لم نكن نعرف من هو خالد بن الوليد لكرهناه لاجل هذا المسلسل .

فهل يعقل ان يتناول قادة الروم قبل 1400 سنة الطعام بلاعق حديثة صنعت في بريطانيا مغلفة " بالسيلستين " وهي الملاعق ذاتها التي نتناول بها بها طعامنا اليوم ، والحوار في المسلسل هو حوار مجموعة يجلسون في مقهى دمشقي او بالقاهرة او بعمان ... حوار ضعيف بلغة اليوم وبلهجتها ايضا ، فالممثل يتحدث مع خالد بن الوليد باللهجة السورية والحوار رتيب والاحداث رتيبة ، رغم ان العرب في حينها كانوا يتميزون بالبلاغة .

وهنا نذكر احقاقا للحق ان الكاتب وليد سيف قد برع في حوار مسلسلات مثل صقر قريش وربيع قرطبة رغم ماخذنا على قصة ربيع قرطبة ، فالحوار والاخراج في مسلسلات وليد يوسف متميزة والمخرج يعتبر ابرع مخرج عربي في تصوير المسلسلات وجميعها كتبها وليد سيف ، اما المسلسل الرائع الذي اخرجه حاتم علي عن قصة الملك فاروق فهي قصة متميزة لكاتبة مصرية متميزة .

فربيع قرطبة رغم اهميته ولكنه تحول الى مسلسل غرامي بتحويل شخصية محمد بن ابي عامر الذي حكم الاندلس ولم يكن امويا الى شخصية عاشق انتهازي وطوال المسلسل على مدى ثلاثين حلقة وهو يستعرض غراميات وانتهازية محمد بن ابي عامر ، والمفاجأة كانت في الحلقة الاخيرة وفي اخر دقيقة في المسلسل بعبارة وضعها الكاتب تقول : " خاض محمد بن ابي عامر 39 معركة وغزوة ضد الفرنجة ولم يهزم في معركة قط " ولم ياتي المسلسل على تصوير معركة واحدة ، واستعرض في ثلاثين حلقة قصص غرام محمد بن ابي عامر ، عندها اول ما عندها اخر ، أي تزوير وافساد للتاريخ الاسلامي بشهادة المؤلف نفسه الذي قال ان محمد بن ابي عامر خاض 39 معركة ضد الفرنجة ولم يهزم في معركة قط .

وعودة الى مسلسل خالد بن الوليد في جزءه الثاني وهو مسلسل فاشل متناقض زور التاريخ الاسلامي عن قصد او عن غير قصد ، فكل الروايات التاريخية تجمع على ان القائد الاسلامي خالد بن الوليد تقبل قرار عزله من قبل الخليفة عمر بن الخطاب رضي الله عنه بروح طيبة وقال لابي عبيدة " عامر بن الجراح " امين هذه الامة سمعا وطاعة ، وبقي قائدا في الجيش تحت امرة ابو عبيدة ، بينما يروي المسلسل قصة اخرى ان خالد بن الوليد عندما علم بقرار عزله نهض من مجلس ابي عبيده خارجا غاضبا ورفض ان يتحدث مع ابو عبيدة " من اين اتى المسلسل بهذه القصة " فالقائد خالد بن الوليد الذي فتح العراق وبلاد الشام معا خلال ثلاث سنوات فقط ودحر امبراطوريتين الفارسية والرومانية لم يفعل هذا من اجل قيادة او مغنم شخصي ، وهو الذي توفاه الله وهو يتألم حسرة لانه مات على فراشه ولم يستشهد في معركة من معارك الاسلام .

الا يستحق هذا القائد الاسلامي خالد بن الوليد مسلسلا قويا يجذب اهتمام المشاهدين العرب في كل مكان يتعرفوا على التاريخ الاسلامي وامجاد هذه الامة ، على الاقل بمستوى مسلسلات الملك فاروق وباب الحارة ، ولكن يبدو ان الفضائيات العربية تمول بسخاء التطبيل والتزمير لباب الحارة ولنور ومهند لانه هذا هو التاريخ الجديد لهذه الامة من مسلسلات يسرا وقصصها التافهة وباب الحارة وحمادة عزوة " حمادة يا جامد " اما التاريخ الاسلامي الذي يجب ان نشاهده فعلا وعلى الاقل في شهر رمضان المبارك ، فقد اصبح في ذمة التاريخ .

ان الاوان ان يقف علماء المسلمين في وجه هذه المسلسلات التاريخية الهابطة التي تزور حقائق التاريخ ، وان وان يشترط على المسلسلات التاريخية الاسلامية والعربية ان تكون بمستوى عالمي من حيث الامكانات وكتابة القصة والاخراج بدلا من الذي نراه في شهر رمضان ، ولكن اذا علمنا ان المخرج السوري العالمي عمر العقاد توفى وهو يبحث عن تمويل لفلم صلاح الدين الايوبي فلم تموله أي جهة عربية ، بينما لو سعى ولفلم من ماركة باب الحارة ومهند ونور وسنوات ضياعهم لوجد كل الممولين يتهافتون على العقاد مثل قصة سوزان تميم التي يتهافتون عليها الان ، وهي مطربة درجة 15 غنت اغنيتين وتفرغت لجمع ملايين لايعرف احد مصدرها حتى دفع لقاتلها ملايين رغم ان المواطن العراقي يقتل في العراق بدم بارد بعشرة دولار .

هذه ليست علامات الساعة ولكنها علامات انهيار الامة وضياعها بوجود مثل هذه الفضائيات التي ادخلتنا منذ سنوات في سنوات الضياع واباحية وافلام المشاهد الساخنة حتى اصبحت الاسرة العربية لا تستطيع ان تجلس وتشاهد عدد كبير من الفضائيات العربية بسبب المشاهد التي تبثها في كليبات اغاني او افلام هابطة ، والاعمال الجيدة اصبحت نادرة .

اننا بحاجة الى مراجعة لكل ما تبثه الفضائيات العربية ولا سيما ما يتعلق بالتاريخ الاسلامي ، فالسياسة زوروها كما تشاءون ولكن عند التاريخ الاسلامي وامجاد هذه الامة نقول لكم " قفوا " لا مجال للمهادنة . انظروا الى اوروبا كيف تنفق الاموال ومئات الملايين من الدولارات على مسلسل تاريخي واحد حتى يظهر التاريخي امام الطفل الاوروبي بالشكل الذي قرأ عنه في مدرسته ، فلا يظهر البطل شخصية مهزوزة .

شكرا لمرورك سمر

» لماذا يستهدف التاريخ الإسلامي؟
» معركة ملاذكرد أشهر معارك التاريخ الإسلامي
» من فنون التصوير الإسلامي : الفرسكو
» قالوا عن التاريخ
» اللقاء الحضاري بين الشرق الإسلامي والغرب الأوروبي