وأما محمد بن سيرين فقد تعلم علي يد زيد بن ثابت وأنس بن مالك وشريح وغيرهم ، وكان محدثا ثقة وفقيها يفتي فيما يعرض عليه من القضايا والشئون ، واشتهر أيضا بتفسير الأحلام وتوفي أيضا سنة 110 هـ .
وفي الشام نشأت مدراس علمية منذ بداية الفتح الإسلامي لها في عهد عمر بن الخطاب ، فقد روي البخاري في كتاب التاريخ أن يزيد بن أبي سفيان كتب إلي عمر بن الخطاب أن أهل الشام قد احتاجوا إلي من يعلمهم القرآن ويفقههم في الدين ، فأرسل إليه معاذ بن جبل وعبادة بن الصامت وأبا الدرداء رضي الله عنهم جميعا ، فكان هؤلاء الثلاثة أول مؤسسي الحركة العلمية الإسلامية في الشام ، فقد تفرقوا في أقاليمها ، فنزل أبو الدرداء في دمشق وعبادة حمص ومعاذ فلسطين ، وتخرج علي أيدي هؤلاء الصحابة الكبار عدد كبير من التابعين منهم أبو أدريس الخولاني ثم مكحول الدمشقي ، وعمر بن عبد العزيز ، ورجاء بن حيوة وكل هؤلاء من أعلام العلماء في العصر الأموي ، ثم خرّجت مدرسة الشام عبد الرحمن الأوزاعي الذي يعد من أقران الإمامين أبي حنيفة ومالك بن أنس ، وكان من الطبيعي أن تكون الشام مقرا لحركة علمية واسعة وأن يقصدها العلماء من كل صقع لأنها أصبحت مركز الخلافة الأموية وفيها عاصمتها مدينة دمشق .
وفي مصر نشأت مدرسة علمية إسلامية عظيمة بعد الفتح الإسلامي وكان أساتذتها ومؤسسوها أيضا من الصحابة الذين نزلوا مصر ، ومن أشهرهم عمرو بن العاص وابنه عبد الله بن عمرو الذي يعد من أكثر الناس حديثا عن رسول الله صلي الله عليه وسلم ، لأنه كان يدون ما كان يسمعه من الرسول ، وقد سكن مصر فلم يكن يغادرها إلا للغزو أو الحج أو العمرة ، ويعد بحق مؤسس المدرسة المصرية وأخذ عنه العلم كثيرون من أهلها .
وقد اشتهر من علماء مدرسة مصر بعد جيل الصحابة كثير من التابعين الذين عاشوا في العصر الأموي ، منهم يزيد بن أبي حبيب ، الذي قال عنه الكندي المؤرخ المصري : أنه أول من نشر العلم بمصر في الحلال والحرام ومسائل الفقه ، وكان ثالث ثلاثة جعل عمر بن عبد العزيز إليهم الفتيا بمصر والآخران هما جعفر بن ربيعة ، وعبد الله بن أبي جعفر واستمرت مدرسة مصر التي كان مقرها جامع عمرو بن العاص في الفسطاط تنمو وتزدهر حتي خرجت الكثير من العلماء كان من أشهرهم الليث بن سعيد فقيه مصر وإمامها ، والذي قال عنه الإمام الشافعي الليث أفقه من مالك بن أنس وقد توفي ا لليث سنة 175 هـ .
ويطول بنا الكلام لو تحدثنا عن الحركة العلمية في بقية أقطار العالم الإسلامي في العصر الأموي ولكن هذه مجرد إشارات تنبه الأذهان الي أن العصر الأموي كان عصر فتوحات عظيمة وإدارة وسياسة وعمران , وكان أيضا العصر الذي شهد بداية نمو الحركة العلمية الإسلامية التي كان قوامها القرآن وتفسيره ، والحديث وشرحه والفقه وأصوله ، والتاريخ والسير ، والمغازي واللغة العربية وآدابها .. الخ .
وهناك فضيلة أخري يجب أن تذكر للأمويين وتحسب لهم في صحائف حسناتهم تلك هي حفاظهم علي التراث العلمي الأجنبي الذي وجدوه في البلاد المفتوحة ، فقد عرفنا فيما سبق أن الفتوحات الإسلامية في العصر الأموي امتدت إلي آفاق بعيدة ، شملت مساحات واسعة في قارات الدنيا القديمة الثلاث أسيا وإفريقيا وأوروبا ، وهذه المناطق التي حوتها الدولة الإسلامية ،كانت هي موطن الحضارة في العالم يومئذ ، وفيها مدراس علمية وفكرية تركز فيها كل ما أنتجه العقل البشري من علوم علي مدي آلاف السنين ، فعلم الهنود والفرس والإغريق علي اختلاف أنواه كان منتشرا في البلاد التي فتحها المسلمون في العصر الأموي ، ووضع المسلمون أيديهم علي هذا الكنز العلمي الثمين الذي كان موزعا علي مدن زاهرة تعج بالنشاط العلمي مثل الإسكندرية وعزة وبيروت ودمشق وحران والرها وجنديسابور وغيرها وكانت العلوم التي تدرس في أغلب مدارس هذه المدن هي علوم الفلسفة والطب والفلك والرياضيات والهندسة والطبيعة والكيمياء والجغرافيا ، وكان الأساس الوثني فماذا صنع المسلمون في العصر الأموي بهذه المدارس . هل أغلقوها وعطلوا الدراسة فيها ؟ لم لا يحدث من ذلك علي الإطلاق ، بل أبقوا هذه المدارس علي ما كانت عليه وتركوا الأساتذة يعلمون والطلاب يتعلمون في جو من الحرية والتسامح لم يسبق له مثيل ، بل لم يتدخلوا مطلقا في شؤون هذه المدارس وتركوا كل شئ للقائمين عليها فلما رأي العلماء والطلاب هذه الحرية وهذا التسامح مع العلم والعلماء الذي أبداه المسلمون نحوهم والذي هو في الواقع من وحي الدين الإسلامي نفسه الذي يحترم العلم والعلماء ويكرمهم ، بل يحث الناس علي العلم والتعليم ويعتبر التفكير فريضة من فرائضه فأول آية نزلت من القرآن الكريم كما هو معروف هي قوله تعالي : (( اقرأ باسم ربك .. إلي آخر الآيات )) .
أقول فلما رأي علماء هذه المدارس وطلابها هذا التسامح الإسلامي أقبلوا علي العلم والتعليم بصدور منشرحة وعقول مفتوحة وأخذت هذه المراكز العلمية تؤدي عملها تحت الحكم الإسلامي حتى جاء العصر العباسي الأول ( 132 ــ 232 هـ ) وكانت الدولة الإسلامية قد استقرت والعلوم الإسلامية الأصيلة والتي أشرنا إليها قبل قليل من تفسير وحديث وفقه وأصول فقه ولغة عربية وآدابها قد تأصلت ووضعت قواعدها وأصبحت لها مدارس شهيرة في مكة والمدينة والبصرة والكوفة ودمشق والفسطاط الخ . عندئذ بدأ المسلمون يتجهون للعوم الأجنبية والتي كانوا يسمونها العلوم الدخيلة وهي الفلسفة والطب والفلك والرياضيات والطبيعة والكيمياء .. الخ اتجهوا إلي هذه العلوم وبدأوا يترجمونها إلي اللغة العربية وكان الخلفاء العباسيون يشجعون حركة الترجمة ويجزلون العطاء للعلماء علي عملهم ويحترمونهم وينزلونهم منزلة كبيرة ، فقد كان الخليفة المأمون يعطي العالم الذي يترجم كتابا علميا من لغة أجنبية إلي اللغة العربية وزن هذا الكتاب من الذهب الخالص ، لذلك اقبل العلماء علي الترجمة في همة ونشاط حتى لم يكد يمضي قرن واحد علي بداية حركة الترجمة حتى أصبح ذلك التراث العلمي العظيم الذي خلفته البشرية علي مدي
أجيال عديدة يقرأ باللغة العربية ، والتي كانت أكثر اللغات انتشارا في العالم لأنها لغة الإسلام والمسلمين . والمسلمون في ذلك الوقت كانوا اقوي واغني امة علي ظهر الأرض ، فهل يقرأ المسلمون تاريخهم العظيم هذا ويحاولون استعادة مجد آبائهم وعظمتهم .
والخلاصة انه لولا سماحة الخلفاء الأمويين وسعة أفقهم وحفاظهم علي هذا التراث لضاع هذا التراث العظيم وخسرت البشرية خسارة كبري لا تعوض .
* * * * *
من كتاب الأستاذ الدكتور : عبد الشافي محمد عبد اللطيف
دراسات في تاريخ الدولة الأموية 41 ـــ 132 هـ .