القابلية للاستعمار تكبل المجتمع وتحول دونه والإبداع
يرى ابن نبي أن الاضطراب والفوضى والتناقض والغموض، وغير ذلك من السلبيات التي تتصف بها بعض النتائج الفكرية في العالم الإسلامي إنما ترجع في جانب كبير منها إلى تلك "القابلية للاستعمار" التي تسكن نفوس أبناء هذا المجتمع، وتدفعهم من موقع الدونية والتقليد إلى تمثل أشياء الغرب وأفكاره دون أي دراسة دقيقة وواعية بالتمايز الحضاري الشاسع الموجود بين المجتمعات الإسلامية والمجتمعات الغربية
14.
وبدل أن تساهم كتابات أولئك المغتربين في تشييد البناء الحضاري للأمة الإسلامية، نجدهم يلجئون إلى تكديس "المعارف"، والانجذاب إلى الإكثار من الألفاظ الرنانة، وتلويك المصطلحات الغربية التي فقدت الحياة بمجرد قلعها من بيئتها الحضارية الأصيلة في الغرب. وطبيعي أن هذا التكديس لا يؤدي إلى إنشاء حضارة؛ لأن "البناء وحده هو الذي يأتي بالحضارة لا التكديس، ولنا في أمم معاصرة أسوة حسنة.
إن علينا أن ندرك أن تكديس منتجات الحضارة الغربية لا تأتي بالحضارة.. فالحضارة هي التي تكون منتجاتها، وليست المنتجات هي التي تكون حضارة.. فالغلط منطقي، ثم هو تاريخي؛ لأننا لو حاولنا هذه المحاولة فإننا سنبقى ألف سنة ونحن نكدس ثم لا نخرج بشيء".
وهكذا نجد هؤلاء المغتربين والمتمثلين تقليديا لأفكار الغرب لا ينظرون إلى الحضارة الغربية إلا من خلال قشورها، ولا ينقلون منها إلا ما يسميه ابن نبي "بالأفكار الميتة" أو "القاتلة" التي ترمي بها إليهم هذه الحضارة عن طريق مراصدها الفكرية حتى يظلوا تابعين لا مبدعين، منفعلين لا فاعلين. وهذا عكس ما فعلته "النخبة المثقفة" في اليابان مثلا التي استطاعت في تعاملها مع الغرب أن تفرق بين ما هو صالح للاقتباس، لا بد منه ولا ضرر يخشى منه، وما هو طالح وخاص بالقيم والأخلاق الغربية التي تتعارض مع قيم الإنسان الياباني وأخلاقياته
15.
ابن نبي وضرورة استلهام التجربة اليابانية
شكلت التجربة اليابانية لكثير من المفكرين والمهتمين بقضايا التنمية عموما في العالم الإسلامي نموذجا يختزل كثيرا من الدروس التي ينبغي استخلاصها للنهوض وتحقيق التنمية المنشودة؛ ولهذا نجد ابن نبي في كثير من مؤلفاته يشيد بدوره بهذه التجربة؛ فقد كانت الانطلاقة الحديثة للمجتمع الإسلامي -في نظره- معاصرة لانطلاقة أخرى في اليابان؛ "فالمجتمعان قد تتلمذا سويا في مدرسة الحضارة الغربية، واليوم هاهي اليابان القوة الاقتصادية الثالثة في العالم. "فالأفكار الميتة" في الغرب لم تصرفها عن طريقها؛ فقد بقيت وفية لثقافتها.. لتقاليدها.. لماضيها".
وفي مقابل هذا يرى الأستاذ أن المجتمع الإسلامي -رغم الجهود المبذولة من قبل رواد عصر النهضة- ما يزال مجتمعا متخلفا؛ لأنه مجتمع لم يستطع أن يتعامل مع الحضارة الغربية تعاملا علميا ونقديا، يقول: "الواضح أن المشكلة التي تطرح نفسها لا تتعلق بطبيعة الثقافة الغربية، بل بالطبيعة الخاصة بعلاقتنا بها. فالطالب المسلم الذي يلتحق بمدرستها هو بين نموذجين: الطالب المجد، والطالب السائح. وكلا الطالبين (المجد والسائح) لا يذهبان إلى منابع الحضارة، بل إلى حيث تتفطر فيها أو تلقي فيها نفاياتها"
16.
فالفرق شاسع إذن بين تعامل المسلمين مع الغرب، وتعامل الإنسان الياباني معه؛ حيث إن هذا الأخير ترك القشور واهتم بالجوهر، فتمكن من استيعاب العلوم الغربية التي تمثل سر شموخ حضارتها. دون أن يؤدي به ذلك إلى فقدان هويته، والسقوط في التبعية والتقليد. "فإذا كان اليابان قد بنى مجتمعا متحضرا؛ فهو قد دخل الأشياء من أبوابها، وطلب الأشياء كحجة، درس الحضارة الغربية بالنسبة لحاجاته، وليس بالنسبة لشهواته. فلم يصبح من زبائن الحضارة الغربية يدفع لها أمواله وأخلاقه، أما نحن فقد أخذنا منها كل رذيلة، وأحيانا نأخذ منها بعض الأشياء الطيبة التي قدرها الله لنا"
17.
وقد خصص ابن نبي مقالات عديدة للرد على هذه النخبة المغتربة التي لا تفرق في اقتباسها واستلهامها لأفكار ومناهج الحضارة الغربية بين ما هو صالح للاقتباس وما هو خاص بحضارة معينة، لا يمكن نقله لأي بيئة حضارية أخرى مغايرة.
18الدورة الحضارية عند ابن نبي
استخلص ابن نبي من قراءاته المتعددة للتاريخ البشري وفلسفته، ولتاريخ الحضارة الإسلامية على وجه الخصوص أن مسيرة الأمم والجماعات تخضع لنـظام دوري، قلما تنجو أي أمة من الأمم من جريانه. وهذا في نظره هو الذي يجعل الأمة في فترة من فترات تاريخها الحضاري تسجل مآثر عظيمة ومفاخر كريمة، تبقى خالدة في سجل تاريخها وتاريخ البشرية من حولها، كما تسجل عليها في فترات أخرى انتكاسات وهزائم حضارية وعمرانية وعسكرية، وغير ذلك من الحالات المرضية التي تهوي بالأمة إلى مهاوي التخلف والانحطاط في آخر طور من أطوار دورتها الحضارية.
وهكذا تلعب الشعوب دورها، وكل واحد منها يبعث ليكون حلقته في سلسلة الحضارات، حينما تدق ساعة البعث، معلنة قيام حضارة جديدة، ومؤذنة بزوال أخرى"
ويرى ابن نبي أن هذا القانون طبيعي جدا؛ لأنه يخضع لنفس النواميس التي تخضع لها باقي مخلوقات الله في هذا الكون؛ فاليوم يبدأ بالشروق والزوال، ثم يتبعهما الغروب الذي يسدل الظلام على الكون، والشهر كذلك يبدأ ببزوغ الهلال، ثم يستكمل تدريجيا دورته؛ لينتهي بعد ذلك إلى الزوال ليبدأ شهر آخر، واحدا بعد الآخر في إطار سلسلة دورية مستمرة. انطلاقا من هذا يقول ابن نبي: "إذا نظرنا إلى الأشياء من الوجهة الكونية؛ فإننا نرى الحضارة تسير كما تسير الشمس؛ فكأنها تدور حول الأرض مشرقة في أفق هذا الشعب، ثم متحولة إلى أفق شعب آخر"
19ولا يعني هذا أن التاريخ يفرق هداياه، أو يوزع أمجاده لأي كان، كما تنشر الشمس أشعتها حينما تؤذن بالشروق، لكن التاريخ كتلة من السنن والنواميس الإلـهية التي تتحكم في توجيه الأفراد والمجتمعات على السواء. وهذه السنن والقوانين لا بد من استيعابها، والسير على هداها لمن أراد النهوض والريادة الحضارية. أما الذين لا يحترمونها ولا يستوعبون عبرها ومراميها؛ فإن حركتهم تكون حركة مضطربة لا يحكمها ضابط ولا هدف؛ مما يؤدي إلى مصادمة السنن الهادية إلى البناء والدخول في فترة الخمول. و"من عادة التاريخ ألا يلتفت للأمم التي تغط في نومها، وإنما يتركها لأحلامها التي تطربها حينا، وتزعجها حينا آخر؛ تطربها إذ ترى في نومها أبطالها الخالدين وقد أدوا رسالتهم، وتزعجها حينما تدخل صاغرة في سلطة جبار عنيد"
20ولكي يخرج المسلمون مما هم عليه الآن من سبات حضاري وخذلان لا بد أن يستوعبوا سنن الله الثابتة في الكون التي يخضع لها الأفراد والجماعات؛ لأنهم بهذا الاستيعاب فقط يمكن أن تكون حركتهم في التاريخ حركة ثابتة وهادفة بدل أن تبقى كما هي عليه الآن حركة عشوائية تحكمها الصدف، وتوجهها الأهواء الفردية والنزوات الشخصية. "فإذا ما حددنا مكاننا من دورة التاريخ، سهل علينا أن نعرف عوامل النهضة أو السقوط في حياتنا، ولعل أعظم زيفنا وتنكبنا عن طريق التاريخ أننا نجهل النقطة التي منها نبدأ تاريخنا، ولعل أكبر أخطاء القادة أنهم يسقطون من حسابهم هذه الملاحظة الاجتماعية، ومن هنا تبدأ الكارثة، ويخرج قطارنا عن طريقه؛ حيث يسير خبط عشواء"
21ويرى ابن نبي في هذا الصدد أن كل الحضارات الإنسانية خضعت لنفس هذا القانون الدوري المتحكم الذي تخضع له الحضارة الإسلامية بدورها.
22