وتبع كل ذلك تطور في أشغال النجارة وإبداع في تكوين زخارفها، فسارت أعمال التطعيم بالسن والآبنوس والزرنشان جنبا لجنب مع الأويمة الدقيقة في المنابر والأبواب والشبابيك، وخَطَتْ أعمال الخراطة خطوات واسعة كما تنوعت تصميمات الأسقف الخشبية، وزاد في روعتها ما حوته من نقوش جميلة مموهة بالذهب، هذا وتتجلى دقة صناعة التعدين في الأبواب المصفحة بالنحاس؛ فتظهر فيها براعة الحفر والتفريغ في النحاس إلى دقة التكفيت فيه.
وللعصر المملوكي أن يزهو على غيره من العصور بقبابه ومآذنه، فقد أخذت القباب تُبْنى بالحجر بدلا من الطوب، وأصبحت قواعدها تأخذ أشكالا مختلفة، كما ظهر القاشاني مُغلفًا ببعض رقابها، أما أسطحها الخارجية فقد تدرجت زخرفتها من تضليع إلى خطوط متعرجة ودالات متداخلة، ثم بلغت في عصر المماليك الجراكسة شأوًا عظيما، فازدانت بأشكال هندسية وأخرى زخرفية.
وسايرت المنارات القباب فنراها تعلو في الفضاء في تيهٍ وإعجاب، تطل على ما حولها في رشاقة ودلال، يسترعي الانتباه طابعها الخاص - وإن كان بعضها قد خرج عنه - ويبهر الرائي رونقها وزخرفها، فالبعض كُسِيَتْ خوذته العليا بالقاشاني كما في خانقاه بيبرس الجاشنكير وجامع الناصر محمد بالقلعة، والبعض الآخر حليت دورته الوسطى بتلابيس من الرخام كما يشاهد في منارة مسجد برقوق ومنارة مسجد القاضي يحيى، هذا وقد تنوعت زخارفها وكثرت في أواخر عصر المماليك الجراكسة.
وأنشئت في العصر المملوكي المدارس ذات التخطيط المتعامد، التي تتكون من صحن مكشوف تحيط به أربعة إيوانات متقابلة، وألحق بها أضرحة لمنشئيها، كما ألحق ببعضها الأسبلة والكتاتيب، وفي أواخر عصر المماليك الجراكسة، أخذت هذه المدارس تبنى بأحجام صغيرة بالنسبة لمثيلاتها المنشأة في عصر المماليك البحرية، وصارت أصحنها تغطى بأسقف خشبية بولغ في نقشها وزخرفتها، وقد أنشئت هذه المدارس في الأصل لتكون أماكن تدرس فيها المذاهب الإسلامية إلى جانب إقامة الشعائر الدينية، فكانت بذلك تجمع بين الغرضين، أما الآن فهي مستعملة كمساجد فقط لا يدرس فيها (4).