امتلك المسلمون الفاتحون قوة دفع كبيرة جعلتهم يخرجون بالدين الإسلامي من حيز الجزيرة العربية إلى العالم رغبة في نشر هذا الدين، ورغم ضعف الإمكانات فإنهم استطاعوا أن يواجهوا أكبر قوتين في العالم في وقت واحد، وأن يخوضوا ضد الإمبراطوريتين الفارسية والبيزنطية حروبا متزامنة وعلى جبهات متعددة، وأن يحرزوا انتصارات باهرة في الوقت ذاته. وقد لعب الإسلام دورا بارزا في هذه الانتصارات؛ لأنه أعطى العرب القوة النفسية لقتال هذه القوى الكبرى؛ إذ كان العرب يعيشون على أطراف العراق والشام، وكانوا أشبه بالمرتزقة قبل الإسلام؛ فلما جاء الإسلام استطاع أن يغيرهم تغييرا جذريا في وقت قياسي. والواقع أن تحليل المعارك العسكرية الضخمة التي خاضها المسلمون في تلك الفترة يثبت أن المسلمين كانوا يمتلكون قوة الدفع الروحية المتمثلة في الإسلام، كما أنهم كانوا الأفضل من حيث القادة المحنكون؛ فخالد بن الوليد -مثلا- خاض ما يقرب من 13 معركة في العراق في أقل من عامين انتصر فيها جميعا، وكانت خططه العسكرية متنوعة تبعا لحاجة كل معركة. كذلك كان الجندي المسلم هو الأعلى لياقة، والأكفأ تدريبا، والأقدر على تحمل المشاق، وكان يجيد حرب الكر والفر التي اكتسبها من الحياة العربية على خلاف الجيوش النظامية في فارس والروم التي لم تكن تعرف إلا أسلوب الحرب المنظمة. والمسلمون وإن كانوا فعلا الأقل عددا، فإن روعة الإعداد والقدرة على التوظيف العالي لما يمتلكون من عناصر القوة والطاقة الروحية التي انطلقوا بها جعلتهم يتغلبون على الفارق في ميزان القوة العددية والتسليح. المثنى.. حوار قبل الإسلام تذكر كتب السيرة النبوية أن النبي صلى الله عليه وسلم عرض نفسه على القبائل طلبا للنصرة والحماية حتى يبلغ الإسلام، وكان ممن عرض عليهم ذلك بنو شيبان بن ثعلبة، فأخبره سيدهم "مفروق" أنهم "يؤثرون الجياد على الأولاد، والسلاح على اللقاح، والنصر من عند الله". فأعجب النبي صلى الله عليه وسلم بهم، ودار حديث طويل بينه وبينهم، وكان فيهم المثنى بن حارثة، وكانوا يلقبونه بشيخ الحرب في شيبان، وكان مما قاله للنبي صلى الله عليه وسلم: "وإنا (بنو شيبان) إنما نزلنا بين صَرَيين؛ أحدهما اليمامة، والآخر السمامة"، فقال له النبي: "وما هذان الصريان؟" فقال المثنى: "أنهار كسرى، ومياه العرب؛ فأما ما كان من أنهار كسرى؛ فذنب صاحبه غير مغفور، وعذره غير مقبول، وإنا إنما نزلنا على عهد أخذه علينا كسرى؛ أن لا نحدث حدثا ولا نؤوي محدثا، وإني أرى هذا الأمر الذي تدعونا إليه يا أخا قريش مما تكره الملوك، فإن أحببت أن نؤويك وننصرك مما يلي مياه العرب فعلنا". فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "ما أسأتم في الرد إذ أفصحتم بالصدق، وإن دين الله لن ينصره إلا من حاطه بجميع جوانبه، أرأيتم إن لم تلبثوا إلا قليلا حتى يورثكم الله تعالى أرضهم وديارهم، ويفرشكم نساءهم، أتسبحون الله وتقدسونه؟" فقال النعمان بن شريك: "اللهم فلك ذلك". ولم يمض وقت طويل حتى أسلم المثنى بن حارثة، وأسلمت شيبان وغالبية العرب التي كانت تقيم في السواد (منطقة العراق). المثنى والصديق عندما أسلم المثنى بن حارثة كان يغِير هو ورجال من قومه على تخوم ممتلكات فارس، فبلغ ذلك الصديق أبا بكر رضي الله عنه، فسأل عن المثنى، فقيل له: "هذا رجل غير خامل الذكر، ولا مجهول النسب، ولا ذليل العماد". ولم يلبث المثنى أن قدم على المدينة المنورة، وقال للصديق: "يا خليفة رسول الله استعملني على من أسلم من قومي أقاتل بهم هذه الأعاجم من أهل فارس"، فكتب له الصديق عهدا، ولم يمضِ وقت طويل حتى أسلم قوم المثنى، وعندما أرسل الصديق خالد بن الوليد إلى قتال الفرس كتب إلى المثنى يأمره بالسمع والطاعة لخالد، وعندما أُمر خالد بن الوليد أن يتوجه للقتال في الشام (في ربيع الآخر 13هـ= نوفمبر 634م) قال للمثنى: "ارجع رحمك الله إلى سلطانك". فأقام المثنى بالحيرة. وفي سنة 13هـ قام حاكم الفرس الجديد شهربراز ابن أردشير بتوجيه جيش كبير لقتال المثنى بقيادة "هرمز جاذويه" في 10 آلاف، فخرج المثنى من الحيرة وأقام ببابل وأقبل هرمز نحوه، وكتب كسرى شهربراز إلى المثنى كتابا، جاء فيه: "إني قد بعثت إليكم جندا من وحش أهل فارس إنما هم رعاء الدجاج والخنازير". فكتب إليه المثنى: "إنما أنت أحد رجلين؛ إما باغٍ فذلك شر لك وخير لنا، وإما كاذبٌ فأعظم الكاذبين فضيحة عند الله وفي الناس الملوك". تقابل المثنى وهرمز ببابل فاقتتلوا قتالا شديدا، وانهزم الفرس وتبعهم المسلمون إلى المدائن يقتلونهم. ومات شهربراز لما انهزم هرمز جاذويه، وحدثت صراعات على الحكم في فارس شغلتهم نسبيا عن قتال المسلمين. وعندما استقر الحكم في فارس كتب قائد الفرس الشهير "رستم" إلى الفرس أن يثوروا على المسلمين، وبعث جندا لقتال المثنى في الحيرة، وتوالت ثورات الفرس على المسلمين؛ حتى إن المثنى ترك الحيرة وعسكر في مكان بعيد بقواته حتى لا يؤخذ على غرة. وشاءت الأقدار أن يذهب المثنى إلى المدينة المنورة قبيل وفاة الصديق ليستأذنه في أن يستعين بمن حسنت توبته من المرتدين في قتال الفرس؛ لأنهم أنشط للقتال من غيرهم، فاستدعى الصديق رضي الله عنه عمر بن الخطاب وقال له: "إني لأرجو أن أموت يومي هذا، فإذا مت فلا تمسين حتى تندب الناس مع المثنى، ولا تشغلنكم مصيبة عن أمر دينكم ووصية ربكم". ومات أبو بكر من ليلته، وكان أول ما قام به عمر هو أن ندب الناس للخروج مع المثنى إلى قتال أهل فارس، وكان الفرس أثقل الوجوه على المسلمين في القتال لشدة بأسهم وقوة سلطانهم، واستمر هذا النفير 4 أيام؛ نظرا لقلة المجيبين للنداء، وكان أبو عبيد بن مسعود الثقفي هو أول الملبين للنداء، وتبعه عدد من الصحابة منهم من شهد بدرا. وعندما رأى المثنى البطء في الاستجابة للنفير قام خطيبا في الناس فقال: "أيها الناس لا يعظمن عليكم هذا الوجه؛ فإنا قد فتحنا ريف فارس، وغلبناهم على خير شقي السواد، ونلنا منهم، واجترأنا عليهم، ولنا إن شاء الله ما بعده". وطلب المسلمون من عمر أن يولي على الجيش رجلا من السابقين في الإسلام والهجرة، فأبى ذلك، وقال: "والله لا أؤمر عليهم إلا أولهم انتدابا"، فأمّر أبا عبيد الثقفي على الجيش، وقال له: اسمع من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وأشركهم في الأمر، ولا تجتهد مسرعا حتى تتبين، وفي التسرع إلى الحرب ضياع، ولكن الحرب زبون، وإنه لا يصلح لها إلا الرجل المكيث". الجسر.. شجاعة رغم الهزيمة وفي (23 من شعبان 13هـ = 22 من أكتوبر 634م) وقعت معركة الجسر بين المسلمين بقيادة أبو عبيد الثقفي والفرس بقيادة "بهمن بن جاذويه"، وجاء في كتاب فتوح البلدان للبلاذري أن معركة الجسر وقعت يوم السبت في آخر شهر رمضان سنة 13هـ، وكانت من أكبر المعارك في العراق، وكانت هزيمة كبيرة للمسلمين رغم ما أبدوه من شجاعة في القتال؛ فبعدما استقرت أمور الحكم في فارس بعد الصراع على السلطة قرر القائد رستم قتال المسلمين، وأعطى راية الفرس لـ"بهمن بن جاذويه" في جيش قوي كثيف، تتقدمه الأفيال المدربة على القتال، وعسكر كل جيش على ضفة من نهر الفرات، فكتب الفرس للمسلمين "إما أن تعبروا إلينا، وإما أن نعبر إليكم". فقال أبو عبيد: "ما هم بأجرأ منا على الموت"، رغم اعتراض بعد قادة المسلمين في الجيش الذين رأوا أن يقوم المسلمون بقطع الجسر بين الجانبين، ثم ينحاز المسلمون إلى بعض النواحي انتظارا لوصول الإمدادات من المدينة المنورة لمواجهة هذه القوات الكثيفة من الفرس، إلا أن أبا عبيد لم يتذكر مقولة الفاروق عمر: "إن الحرب لا يصلح لها إلا الرجل المكيث"، وقرر العبور إلى الفرس. كانت الخطة الحربية للفرس أن تهاجم الأفيال المدربة على القتال خيول المسلمين، ثم يرمي الفرس المسلمين بالنبال والرماح حتى تحدث الفوضى في الجيش المسلم ويسهل بعد ذلك قتالهم، ولم ينتبه المسلمون الذين عبروا الجسر أنهم بعد العبور أصبحوا محصورين في مكان ضيق لا يتيح لهم المناورة، وعندما بدأ القتال ذُعرت الخيول من الأفيال، وأصيب عدد كبير من الجنود المسلمين بالنبال، ولم يتمكنوا من القيام بعمليات الكر والفر، وقتل من المسلمين أكثر من نصف الجيش، البالغ 10 آلاف مقاتل، وعندما أقبل المسلمون يريدون عبور الجسر إلى معسكرهم مرة أخرى تدافعوا على الجسر وسقط عدد كبير منهم في الماء وماتوا غرقا، فقام المثنى بحماية الجسر حتى يعبر المسلمون إلى الضفة الأخرى دون تدافع. أما أبو عبيد فإنه استشهد بعدما قام بعملية فدائية رائعة استطاع خلالها أن يقتل أقوى فيل في جيش الفرس، إلا أن الفيل سقط عليه فاستشهد تحته. كانت الهزيمة في معركة الجسر كبيرة للغاية؛ حتى إن بعض المسلمين تفرقوا في الصحاري، وعاد بعضهم إلى المدينة المنورة، وفُقد البعض الآخر؛ فكانت نكسة عسكرية بكل المقاييس، خاصة أنها وقعت بعد الانتصار الرائع للمسلمين في اليرموك بأربعين يوما، ورغم ذلك ثبت المسلمون في مواقعهم، ولم يؤنب عمر بن الخطاب الفارين، وثبت المثنى بمن معه من المسلمين استعدادا للثأر من الفرس |